“موروث الطريقة الجهرية من وجهة نظر النقشبندية”…بقلم الشيخ عبد الرؤوف اليماني مرشد صوفية الصين_(٢)
1. تفسيرات حول مجمل النموذج النفسي المتكون في الطريقة الجهرية.
شهد يوم انتهاء الإمام البوصيري من كتابة المخمّس انتهاء معاناته من شلل كابده لسنوات عدة. واختفى أيضًا مرض الإمام “الباقر” الخطير الذي عانى منه لسنوات من عمره بعد انتهائه من ترجمة “الرسالة المقدَّمة للأب” لحضرة الشيخ الخواجة عبيد الله أحرار.
وهذا ما ورثناه والتزمنا به في ديننا. نجثو أرضا في دائرة نذكر فيها اللّه كل ليلة بعد صلاة العشاء ونقرأ سورة الملك، بعدها نتلو خمس صفحات من المخمّس (المعروف أيضًا باسم كتاب الشعر العربي، القصيدة الخماسية العربية، أو البُردة).
ولقراءة هذا الكتاب طريقة تم انتقالها عبر أجيال. وبعدما تحوّلت ثلاثة أبيات القصيدة إلى خمسة، شرع الكتاب في التوارث من قبل أهل السنة والجماعة. وعلى إثر ذلك، اتبعت جماعتنا (الطريقة النقشبندية) طريقة هذه القراءة الموروثة من عهد نبينا محمد ﷺ.
حيث تتم قراءة سورة الملك وخمس صفحات من المخمّس كل ليلة. وحُدِّد كل يوم بحرف أبجدي خاص. ووُحِّد في عائلة محيي الدين (رضي الله عنه) طبيعة الصفحات الواجب قراءتها كل يوم. وهذا ما تمّ تناقله في الطريقة الجهرية.
وبناءا على ذلك عملت ثمانية أجيال بأكملها من مرشدي الميراث في الصين وفقًا لقواعد المخمّس. ونبَع كلٌّ من سلام الروح، سكينتها، نبلها ونورها البارز من خلال قراءة المخمّس المؤثرة كل ليلة. كما أن كافة المُريدين ممن يحوزون القدرة على الالتزام مطالبون بقراءة سورة الملك والصفحات الخمس بانتظام.
للمخمّس قراءتان:
– القراءة اليمنية: وهي التي اعتُمدت في تكيّة المدينة المنوّرة (اندثرت هذه التكيّة ولم تعد موجودة). ووِفقا للأثر، تواجدت التكية ببستان لجوز الهند بالمدينة المنوّرة حيث كان النبي ﷺ يقوم بمناقشة الأمور الهامة مع الصحابة (أضحى المكان الآن منطقة سكنية خاصة وقُطّعت أشجار جوز الهند التي كانت فيه). ويقال أنه كان هناك تلّ ترابي صغير على بعد حوالي ثلاثمائة متر شمالًا من ضريح النبي ﷺ. حيث كان النبي ﷺ يلقي خطبته أو يقوم ببعض المسائل هناك. ولمّا كان الصحابة يكنّون له حبّا شديدا، قاموا بصنع مرتفع ترابيّ له ليتخذه مجلسا. حينها طلب النبي ﷺ من الصحابة جميعا أن يصنعوا لأنفسهم تلالا أيضا فيجلسون عليها. فقام بذلك مرتفع كبير في الوسط وصفّان من المرتفعات الأصغر حجما أمامه. ويقال أن هذا المكان هو بالضبط مكان تكيّة المدينة. كما أنه بعد نقل طريقة القراءة هذه من المدينة المنوّرة إلى الصين أضحت تسمى “فوتشيانغ”، وتم تناقلها كطريقة تنشيد منذ ذلك الحين.
– القراءة الأخرى: هي قراءة تكيّة مكّة، ولم يبقى لهذه التكية أثر بعد توسيع المسجد الحرام. وتسمى القراءة الموروثة من هذه التكيّة بِـ “ترتيلات مكٰة”، وفي الصين يطلق عليها اسم “ترتيلات لينغ دجو”. عندما يُقرأ المخمّس بأي من الطريقتين، يترك انطباعا عميقا جدا لدى المستمع يدوم أبدا.
ونحن بفضل هذا الإرث التقليدي، نحتفل كل ليلة بمدح النبي ﷺ بخالص الصدق والإخلاص. بدءًا من الضوابط الرئيسية للطريقة وصولا إلى سلسلة الطاعات اليومية المتوالية، وبناءًا على ما تزخر به كل ليلة من إنشاد عذب، يصوَّب تركيز الحالة الذهنية بجلاء ووضوح نحو السعي لمبدأ اقتباس النور من شمعة. وتذكرنا لسيدنا محمد ﷺ لا يحثنا إلا على التحلي بمشاعر نبيلة غاية النبل وبحسن نية نابع بعفوية من القلب. وأملا في التنعم بشفاعته ﷺ، وإيمانا منّا بأنه ظهرٌ وسند لنا، لزم أن ينطوي قلب كل فرد منّا على محبة لامحدودة تجاهه وعلى أطيب التوقعات منه ﷺ. لذلك، يُلمس جليّا حب الله وحب نبيه ﷺ في الثناء الصادق والمستمر عليه ﷺ، وهذا ما يعكس المعنى العميق لحب الله ونبيه الكريم، الحب المترتب عن الميراث التقليدي.
وقد جاء السر ظاهرا وبيِّنا بين سطور صفحات كتاب المدائح، حيث ذُكر في فصل “فاي هو بي” أنه: بمدح نبينا الكريم ﷺ ينبثق نور عظيم يضيء الطريق الصحيح. وكل نور الإسلام يظهر من محبتنا لسيدنا محمد ﷺ. فقط أولئك الذين ينعمون بتلك العطيّة، الذين أُكرموا بالمعرفة، يدركون أنه “رغم غروب الشمس، يظل الشفق في الأعالي قائما”. وحال الولي من حال المرآة، يُعكس من خلاله ما تبقّى من نور على سائر الأمة. فتلاوة المخمّس كل ليلة ما هو في الواقع إلا انعكاس لنور حب النبي ﷺ. حين تغرب الشمس، يتألق القمر وتتلألأ النجوم. وحال المرشد سيّان، يستمر على إرشاد أتباعه رافعا شعلته وسط دروب حالكة السواد، مورِّثا نهج المصطفى ﷺ إلى أن تفنى العوالم. وهذا النوع من الفكر خلق انسجاما قويا داخل الطريقة الجهرية.
يبدأ حبّ الله ونبيه ﷺ من الدورة الصوفية. حيث أن للدّرب الصوفي ثلاث دورات. الدورة الكبرى، ومدة الواحدة منها 36 سنة، ما يطابق تمامًا التقويم القمري الصيني. مما يعني أن شهر رمضان السنة التي وُلدتَ فيها سيصادف أن يكون شهر رمضان أيضا بعد 36 سنة بالتحديد. ولهذا السبب اعتبِرت الستة وثلاثون عاما هي المدة المضبوطة للدورة الكبرى.
وهناك الدورة المتوسطة، مدة الواحدة منها 33 يومًا، تُعتبر تقويما دوريا وسرّا صوفيا. أشياء عديدة تندرج تحت مفهوم الدورات.
لأنه ثمّة أمور عدة حدثت على مر التاريخ تتّصل بظاهرة الدورة. لقد حدثت منذ سنوات مضت وستتكرر مرة أخرى بعد سنوات مقبلة. يكمن الاختلاف فقط في الزمان، المكان والشخصيات، ويبرز التشابه بجلاء في مسار الحدث. ولهذه الدورة نقاط مطابقة لدورة المخمّس. وأخيرا، هناك ما يسمى بالدورة الصغيرة، ومدة الواحدة منها 28 يومًا.
بقراءة المخمّس وتفسيره كل ليلة، سيدرك أهل البصيرة والمعرفة الحقّة، المعنى العميق والرائع لِـ “واجب الوجود”، حيث أن كل الأشياء باطلة، غير حقيقية ومؤقتة. فقط اللّه وحده سبحانه هو الخالد، بلا بداية ولا نهاية. عن طريق التلاوة سيتولد المعنى العميق للمخمّس برقة وبتدرج، تلك التلاوة التي يلتزم بها العبد يوميا كل ليلة، من ميلاده إلى موته، مادحًا بكل إخلاص وبصادق الحب نبيَّه. فيمتزج حب الله وحب نبيه ﷺ، وينتج عنهما تناغم يَظهر تدريجيا في رحاب هذا الدين وينتقل بسلاسة إلى الجيل الموالي. والمعلوم أنه يتحتَّم على العبادات الموروثة أن تستمر وأن لا تنقطع أبدا، مذ لحظة الوجود إلى لحظة الفناء. هكذا ستَخلق هذه الموروثات فكرا ونية يشغلهما القرب من الله فقط، وسيغدو القلب حينها فعلا قريبا من الله، إلا أنه لن يدنو كليّة منه سبحانه إلا وقت الثناء.
أضحت هذه العبادة عادة معاشية في الحياة اليومية، وصارت نمطا من الميراث والممارسة مستمرا استمرارية الحياة. وقد شكلت في واقع الأمر تماسكا قويا وإيمانا راسخا لن يتغير أبدًا. وكانت هذه إحدى مبادئ حماية الدين الإسلامي. ومما لا شك فيه، إذا ما أُلغي الاحتفال بالمديح النبوي، فسيتم تدريجيا إخماد أهمية الدور العظيم لنبينا الكريم ﷺ، الشيء الذي سيُضعف بدوره الاعتقاد في حب الله ونبيه ﷺ. فمحبة الرسول ﷺ تُعتبر مدينة محصّنة وموقعا دفاعيا يحمي الإسلام من الاندثار، فإن هي ضاعت، ضاع الدين كلّه. لذلك، فالاحتفال بمدح الرسول ﷺ هو في الواقع نهج لتقوية محبة الله ونبيه ﷺ في القلوب ولتقوية الانطباع والعاطفة تجاهه ﷺ، حتى ننعم بإيمان راسخ يثبِّت أقدامنا على درب الإسلام. لأن سر التهذيب الروحي هو الحب النابع من أعماق الروح.
في الطريقة الجهرية، حينما يقوم شخص ما بقراءة المخمّس ومدح النبي ﷺ بصدق وإخلاص، يطفو ويظهر بشكل عفوي الحب العميق المتغلغل في القلب، فيخلق بذلك قربا حقيقيا من الله ووجدانا ينضح بحبه تعالى وحب نبيه الحبيب ﷺ. وعُقب استشعار هذا الضرب من التأثر، ستتسع رقعة الإيمان لتتعدى محبة الرسول ﷺ فتطول محبة المخلوقات كلها، وستتوسع من كونها فقط عواطف وحبّا مجردًا لتتبلور إلى حب حقيقي ملموس.
رغم انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى، لازال هناك نوع من العاطفة ينبع طبيعيا عند مدحه ﷺ أثناء العبادات أو الاحتفالات، وهذا التعلق ليس مقصورا على آله وصحابته لوحدهم، بل يطول المسلمين كافة، والإنسانية جمعاء. حينذاك سيكون الشاعر بهذه العاطفة قد أحس فعلا بالحب الحقيقي الملموس. وبناءا على هذا الشكل الاحتفالي بالامتداح النبوية قد تمت نشأة تراث عاطفي يدعو لمحبة كل خلق الله بلا تمييز. سيتولّد هذا الحب الخاص تدريجياً عن طريق العبادة الراسخة، مما يتيح إدراكا عامًّا للإنسانية ولسنن الله تعالى، وبالتالي القدرة على التقاط الحبل، حبل خير الخلق أجمعين ﷺ.
كان حبه ﷺ حقيقيا وصادقا لكل صحابته، لأمته ولجميع الكائنات الحية، فأعان البشرية جمعاء على الرقي إلى مستوىً روحي مختلف، مما لعب دورًا هاما في السمو بالنفس إلى أعلى منازل التهذيب. ثم استمر الأمر كذلك، فاستُحيل الإقلال من شأن النبي ﷺ، ووجب على المرء أن يزهد في هذه الحياة الظاهرة حيث أنها مؤقتة وواهمة، وأن لا يضعها إلا موضعها الحقيقي.
ولا سيما في ميراث المخمّس، فالتلاوة بصوت مؤثر ومرتفع تترك انطباعا عميقا على مستوى العقل لا يندثر مدى الحياة.
لذا فالتلاوة بصوت عال في الجهرية تُلهم قلوب الناس، وتساعد على تبديد بعض الأفكار اللامجدية والمضطربة. كما يمكن للروح العامة والصوت السائد خلق نوع من التحفيز العقلي وحث المستمعين على الإحساس بذات الشعور حتى عندما يكون القارئ شخصا واحدا لا أكثر.
لذلك، فالترديد بصوت عال يساعد في تبديد الأفكار غير المفيدة وتوليد مفهوم فقدان الذات، الشيء الذي يؤدي إلى إضعاف حدة الأفكار المسبقة. وسعيا لسعادة الدارين سيسمو الواحد منا لمقامات أعلى وأرقى. سيلتزم بهذه العادة وبالدورة طوال حياته، وستظل عاطفته ثابتة في هذا النطاق. سيكون هنالك رغبة وطموح يولدان في جو من التحرك المشاعر والإعجاب. وستتلاشى نقاط الضعف البشري تدريجياً ويُقضى عليها.
لذلك نجد أن أولئك الذين يداومون على تلاوة المخمّس، تتغذى قلوبهم على حب الله ورسوله ﷺ، مما يقلل من تغيرات مزاجهم ومن قوة تحكم الشهوة فيهم، ليحل محل ذلك مبلغ سَامٍ ونبيل ألا وهو ابتغاء مرضاة الله ورسوله ﷺ، مما ينير ويرفع من مستوى إدراكهم.
حين تنقشع فكرة الحب الحقيقي الملموس إلى الوجود، سيرتقي المرء من مستوىً إدراكي منخفض إلى مستوىً إدراكي سام ومقام روحاني عال جدا (وعلى هذا المنوال يصير أسلوب تفكير من وصَل درجة الحب الحقيقي الملموس). وهنا يكمن سبب تقيد الناس دائما بطريقة العيش هذه في الطريقة الجهرية، متمسكين بالآليات العقلية للتلاوة المتكررة للمخمّس من المهد إلى اللحد والاحتفال بمدح النبي ﷺ بصوت عالٍ.
2. تفسير للعبادات والمواعظ الروحية الموروثة عن الجهرية (تشكيل النظام الأيديولوجي المحافظ)
كان هنالك في الطريقة الجهرية عدة تلقينات عقائدية استحثت طموح المريدين نحو السعي خلف البركات الروحانية وسلوى الروح
(سعي للقرب من الله والعودة إليه)، وذلك لتحقيق الصلة الحقة بالله سبحانه فاطر كل شيء، وتحقيق التوافق بين مراد العباد ومراده عز وجل (التّوْق والدعاء لأجل النهاية الأسمى.. وهي العودة إلى الرب الرحيم).
حين يأتي على لسان حال المرء: “ربنا، أنت منتهى وجهتنا”. وتظهر في قلبه رغبة من هذا النوع، يُعلم حينها بأن تطلعاته قد أوقظت.
فيتقفى أثر الحلال دائما وينأى بعيدًا عن الحرام، يثق تمامًا بمرشده الروحي، يأتمنه على كل شيء ويقضي معه سنين حياته. وبعدها يقبّل عتبة التكيّة. حيث بموجب محبته للنبي ﷺ، ستزداد محبته لمرشده بشغف أكبر، وبعد تقبيله لعتبة التكيّة، سيمكث هنالك دومًا ولن يرحل أبدًا ما حَيِي. لأن كل الأشياء الزائفة في هذه الحياة لن تستطيع حجب الحقيقة عنه بعد الآن، ولن يضِلّ بعدها أبدًا.
بفضل طريقة تفكيره هذه، ستتجلّى عليه نعمة الله. فعلى الرغم من أنه لا يحوز الكثير من المعرفة، لكنه يتمتع بالتقوى والاعتزاز. وعلى الرغم من أن طاعاته ليست بالكثيرة، بيْد أنه على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل حبه لله ولنبيه ﷺ.
حينها تخرج روحه السامية حيز الوجود، فتُفتح عين عقله، ويتضح له من خلالها أن كل ما في هذه الحياة لا يسعه إلا أن يكون ذا وجود مؤقت. وعلى نحو راسخ يزاول تديّنه تحت ظل هذه المعرفة. سيغدو باله مشغولا أكثر بشأن تشويش هذه الحياة الدنيا ومنعها نماءَ فكره. يتحقق هذا عند بروز بعض الأفكار العشوائية والافتراضات غير الموضوعية والتنويرات الخاطئة، لكنه حينها سيستشير مرشده وأهل العلم السائرين على ضوء السنة النبوية.
أما من لم يلتزم بالقيام بطاعاته ووجدها مضجرة ومملة فقد هيأ ذهنه للتشويش وهيأ عقله للضعف والهوان. ستفسُد ألباب هؤلاء الناس مما سيحُول دون وصول ولمس نعمة الله لقلوبهم. وبالتالي ستُحرَم عقولهم بشكل خاص من التنعم بفضل الله.
بعد اتباع المرشد الروحي، ينفتح باب رحمة الله في القلوب المشوشة. ويستقر أيضًا مبدأ الانصهار الذاتي والرجوع إلى الله. إنه شيء مؤقت، حيث أن لوجوده المستقل نقطة توقف، مما يجعله أقل جرأة على إطلاق أحكام موضوعية، وعلى تحمله لوحده مسؤولية استقامته الذاتية، وعلى السير في طريقه الخاص.
من الضروري في هذا الميراث أن تُركَّز الأفكار على السعي وراء الجيد من الأشياء والسعي إلى مفهوم الخلود، وعلى إظهار الحب لله سبحانه ولنبيه الكريم ﷺ وعلى مرافقة المعلم الروحي مدى الحياة. وطبقا لتفسير الميراث، فقد قامت الشهادة بوحدانية الله بناءًا على أدلة جلية تم من خلالها إبراز وجود الله وصفاته وبعض إشاراته الخفية. كما أن هناك دلائل عديدة في ميراث الجهرية تؤكد على الوجود والحضور الحقيقين لله تعالى، والتي كُشفت من طرف جميع أجيال المرشدين الروحانيين السابقين.
وبفضل تجلي تلك الأدلة الواضحة المتوارثة جيلا بعد جيل، ظهرت منزلة الحضور مع الله. ثم خلال النهج التوارث كُشفت كذلك بعض أسرار القرآن. وبالتأكيد ساهمت هذه الدلائل في ارتقاء بعض ممارسي الطريقة إلى حالة من الهيمان والسُّكر وإلى مستوىً عال من الرصانة. إنه مقام رصانةٍ يُظهر معرفة حقيقية وإدراكا شاملا لحيثيات الحكم على الصواب والخطأ. وحالة السُّكر هذه هي ذلك الشيء القائم بالروح والذي يمكِّن من التبصر من خلال كل شيء في هذه الحياة واكتساب بصيرة واقعية وحكم حقيقي على الصحة والتزييف وعلى الصواب والخطأ.
هناك مقام في المعرفة الحقة في الجهرية يسمى الإدراك المباغث، حيث يتأتى للمرء فجأةً هذا النوع من الوعي، ويقول بلسان حاله: “يا ويلاه! كل ما قمت به كان عقيما ومؤقتًا”. زرَع في هذه الدنيا حجارة فقط ولم يزرع حبة قمح واحدة. لذا فمقتضيات ديننا تحثنا و تذكّرنا دائما بإهمال زراعة الحصى والانهماك في زراعة القمح مكانه. فبذرة واحدة في التربة، ستُنتج آلاف الحبوب. وبهذا الأسلوب،
بزغ إدراك الناس التقليدي إلى حيز الوجود.
ويعتبر مقام تكلم النبي ﷺ مع الله سبحانه وحدةَ الروح في الجهرية. إنها توفيق للحالة (في الحالة عينها، سيحوز نفس المعرفة ونفس الإدراك).
يتم الوصول إلى هذه المنزلة حينما يلتقي بحران اثنان في واحد، أي عند التقاء المرشد الروحي مع المريد، وعند التقاء النبي ﷺ مع الصحابي. في هذه الحالات بالضبط، سيشتركان في المستويين المعرفي والإدراكي ذاتهما، أي ما يعرف بالمظلة الروحية المتوارثة في الطريقة النقشبندية.
في منظور التبريرات الإسلامية، نُقلت المظلة الروحية من صدر النقشبندية. الطاعة الناتجة عن حب الله والنبي ﷺ، والولاء الخالص للمرشد الروحي ولو طالت رفقته مدى الحياة، هي أحد المتوارثات التقليدية الطريقة الجهرية التي صاغت فكرا خاصا ونوعا معينا من الحب، وحفظت الموروث التقليدي بشكل متين. وفي خضم هذه الظروف تم تناقل الجوهر والإرث الأصلي للجهرية. وبطبيعة الحال، تمت نشأة بعض وجهات النظر الدينية وبعض السلوكيات والأساليب على مستوى النسق العقائدي.
لذلك، تميزت الجهرية دائمًا بطبعها المحافظ، هذه الطبيعة المحافظة صانت تقاليد الإسلام الموروثة عن الرسول ﷺ رغم التأثيرات المحيطة. إنه لمن غير المجدي محاولة تغيير الأمور المعيارية، فسيُبرهن كل تغيير عن لا فاعليته. أما كنتيجة للموروث، فقد تم تشكيل نوع من التيار المحافظ، الذي أبقى الجهرية أصيلة في الحفاظ على الإسلام المنقول عن الرسول ﷺ. وعليه قيل: “أن الدين ظل خالصا على الدوام لآلاف السنين، وانتقل من جيل إلى جيل دون أن يضمحل”. ومنه فلم يُضَف إليه أي مستحدَث رغم استمراره لما يزيد عن
ألف سنة. ومؤكد أن شمعته لن تُطفأ أبدًا طالما تتناقله الأجيال بعناية.
في ميراث الطريقة الجهرية، تُضبط حتى أصغر الأحكام وتُحفظ، ولا يجوز فيها الابتكار والتغيير. وهذا ما يجعل إرثنا الديني عن النبي ﷺ راسخا وقويا، به نحافظ على خالص إيماننا، وبه نعظّم عباداتنا ونقوم بآدابها، وبه ننحاز عن أي اعوجاج أو سيء البدع. وبالتالي، فهذا الإرث كبيرا كان أم صغيرا، قد تم حفظه وتعزيزه من جيل لآخر، فتبلورت بسلاسة طريقةٌ ذات قوة مُحكمة. لا يهم إلى أي مدىً قد تغير المحيط، فستستطيع الجهرية دائمًا الحفاظ على الموروث الأصلي لنبينا محمد ﷺ.
في مثل هذه الظروف، نشأ الرسوخ. روح القرآن وروح آل النبي ﷺ، كُتبا على شكل شعارات أو قوائم شفهية معروفة بشكل واسع بين صفوف التابعين وتوارثتها أجيال من المعلمين الروحانيين. وهذا سبب آخر لاستمرارية الجهرية في التناقل على الدوام وعدم اندثارها لحد الآن.
3. تفسير استمرارية التوارث في الطريقة الجهرية
استمرار التوارث يُعزى إلى أن الصوفية انتقلت بناءًا على مبدأ الخلافة والتكريس من لَدُن أحفاد الإمام الرباني في محاولتهم لتوريث الطريقة. وفعلا تمكن هذا التأسيس بأن يُتوارث على طول الأجيال السابقة. وفي ظل هذا التقليد، نجد أن كل مؤمن في صفوف الصوفية
يحمل على عاتقه نوعا من المسؤولية تجاه هذه الأخيرة، متنبّه لعجالة الحياة، ويهدف لتوريث الطريقة والخبرة الروحية. أما الإحساس بالمسؤولية في الصوفية فيعني أن أفكر كالتالي: مادامت أنتمي للطريقة الصوفية فأنا صوفي، وبالتالي فإن لي مهمة من الله تدعى الحس بالرسالة.
الشعور بعجلة الحياة يُحصَّل بالتفكير بأن المدة لن تَتجاوز 36500 يوم حتى لو عاش الشخص 100 سنة. هنا يُمثَّل يوم الجمعة بمسطرة قياس، وتُمثَّل حياة الناس بقطعة قماش. يحتلّ كل يوم جمعة قدْر قدمٍ من القماش إلى أن يصل إلى نقطة النهاية. هكذا نتج الشعور باستعجال الحياة. والحس بمسؤولية توريث الطريقة يظهر في المعاناة الكبيرة لكل أجيال السلف السابقة من أجل الدين ومساهماتهم الغزيرة لصالحه. بعدها، تبلور هذا المبدأ بشكل سلس بين الأجيال الشابة.
زيادة على ذلك، فإنها تجربة روحية. سيتمتع المرء بتجربة روحية حينما يتعمق في الممارسة في الطريقة الجهرية. مفتاح هذه التجربة الروحية هو اتباع المرشد الروحي الذي يتّسم بصفة الخلافة. الذي يعرف تماما كل شيء عن نفسه وعن هُويته وعن خلَفِه في درب الصوفية. يسأل الله الهداية ويستعين به وحده، أو له إسهامات على مستوى الدين. يعرف جيدًا ما يجب عليه فعله ومن في الحقيقة يكون. أثناء تجربته الروحية، وَرِث توجُّهًا يُترجِم المعنى الحقيقي لما يجب اعتباره فوق كل شيء، التوجّه ليس إلّا وِجهة، وهدف حياة المرء يتمركز في الشيء الذي تتوجّه نحوه هذه الأخيرة. إنه التوجّه لا غير، الشيء الأهم الواجب السعي بجهد إليه والإسهام فيه، الشيء الأسمى من حقيقة كل شيء.
حسب عقيدة الطريقة الجهرية، فإن الحقيقة العليا لكل شيء تتمثل في إعادة توجيه هذه الحقيقة نحو اتجاه واحد -اتجاه الكعبة-. فالكل يتوجّه نحو الكعبة وحدها، حتى الأنبياء والأولياء، وكلٌّ على درجة عالية. وظاهريا، يسجد المسلم باتجاه الكعبة، لكن في حقيقة الأمر هو يسجد للّه، ويظل هذا التوجه ثابتًا طوال حياته، وبه تسمو روحه ويرتقي في مقامات التصوف وتعلو درجاته وتقوى شوكته. ويقينا أن الله وحده لا شريك له هو الوهّاب لكل العطايا التي اختُص بها الإنسان. وكإنسان، وجب أن تكون وجهة قلبك تجاه الله وحده الذي هو أصل النعم جميعها. وأي شيء ذو صلة بمقتضيات عبادة الله، دائما ما يحقق هدفه بفضل بركة تلك العبادة. فالقبلة المتوجَّه نحوها لعبادة الله مرتبطة بشكل كبير بالنور الظاهر على الإنسان المستمَد من “نوره الروحي”.
إنه يقوم بأي شيء في سبيل الله لأن وجهة قلبه هي الله. يقطع مئات الأميال للانضمام إلى صلاة الجمعة وآلاف الأميال للانضمام إلى احتفالات العيد، بنِيّة واحدة خالصة ألا وهي عبادة الله. لذا فإن النور الروحي يشير إلى القبلة. فرغم ان نيّته اقتصرت على المشاركة في طقوس العيد أو العبادة، إلا أن النور الذي تتلقاه روحه يجعل رغبته الوحيدة هي تقربه من الله، وفعله كله في سبيله عز وجل. كان آدم عليه السلام قبلة سجود كل الملائكة. ونسل آدم عليه السلام، أي كل البشر، وحّدوا قبلتهم نحو الكعبة لعبادة الله. وظهر النور الهادي عند نشأة الإيمان، من جهة الكعبة، من مصدر انتشار النور.
في الصوفية، يوجد كُتيب مشهور يسمى النور الموجِّه للروح. يتحدث عن الارتقاء والتقدم عبر مراتب التوّجه، وعن الخاصية الداخلية التي تنطوي عليها الطبيعة البشرية. هذا وأن الإنسان هو خليفة الله، روح كل شيء، وقد مَنَّ الله عليه بهذا العطاء منذ أن كان في عالم الذر.
لذلك، فقد أُنعِم الكل بهذه المنحة في ما مضى. ونعمة أن يتشارك الناس روحانية المقامات ما هو إلا نوع من الغذاء الروحي في الصوفية. من هنا، فإن عملية ارتقاء الروح والقوة المترتبة على هذا الارتقاء ، كلاهما من النعم التي خُصّ بها بنو البشر وحدهم لا غير. كما أنه لم يخلق الله ما بين السماوات والأرض إلا لمرافقة الإنسان ووضعه في روح الكون. درجات الجنة التسع، دركات الجحيم السبع، الإنسان وكل ما تضمه العوالم جمعاء هي مخلوقات أوجدها الله، بيد أن الإنسان هو المخلوق الأسمى على الإطلاق. إنها البشرية، التجسيد الصريح للحكمة الأسمى، الموكّلة للخلافة، وروح الكون الذي سما على كل شيء. ولذلك فإن منزلة الإنسان التكريمية والتشريفية أعلى من منزلة الملاك، وهذا ما قدّره وأنعم عليه به رب العالمين الرحمن الرحيم.
حسب موروث الطريقة الجهرية، فإن وجهة المرء طوال عمره تكون ناحية بيت الله من أجله سبحانه. فكل ما يقوم به يكون في سبيله عز وجل. ففي سبيل الله يربي أبناءه وأحفاده. وفي سبيل الله يسعى لترقية روحه إلى الكمال. وفي سبيل الله سيبقى على توجه واحد مدى حياته. وما من حال سيغير عقيدته حتى لو كان فقرًا أو اضطهادًا أو قتلا. لأنه حسب اعتقاده، سيكون هنالك الكثير من المعارك والظروف المختلفة ونقاط التحول التي ستقابله حتما أثناء شق طريقه في هذا العالم. فالعامل الروحاني الداخلي الحقيقي هنا هو صريح الإدراك بأن أصل كل الأمور نابع وتابع لقدَره سبحانه. وبما أنه تم تحديد كل شيء مسبقا بعظيم حكمته جل في علاه، لم يتبقّى لنا سوى أن نطيع ونذعن لمشيئة مولانا.
لذلك هناك قول مأثور في السنّة الطريقة النقشبندية:
“ربي! لك أنا طائعُ..
وكما ينبغي لعبد مثلي، حقا لك خاضعُ..
سأكون حامدا لك إن أدخلتني جنتكَ..
وإن رميت بي في النار.. سأظل على حمدكَ
سأخنع لك بدون شرط.. لأنني عبدكَ..
ولأن المشيئة مشيئتكَ.”
أحرز نظام التوارث في عالم الروح تفوقا حيث ضمن الاستقرار والتمسك بوجهة واحدة وعدم الزيغ عنها أبدا. فحين يعلم المرء بماهية الجهرية يصرّ فيما بقي من عمره على التمسك بهذا التوجه إلى أن يقابل ربه، بدون طروء أدنى تغيّر، امتدادا من نقطة الولادة إلى لحظة الموت. كما أنه بغض النظر عن نوع الابتلاءات التي يوجهها، وبغض النظر عما إذا كانت جيدة أو سيئة، فهو دائمًا ما يعتبرها قدر الله الساري عليه وشكل من أشكال النِّعم التي منّ بها ربّ الخير عليه. وهذه هي مبادئ التبريرات الإسلامية، وهو التأثير الذي تحظى به الطريقة النقشبندية في رحاب ميراث الطريقة الجهرية.
يستطيع كل من العبد أو الخادم الإقتراب من المَلك، لكن الأمر يعدّ أسهل بالنسبة للوزير، نظرا لسمو مكانته ومرتبته. فلا يمكن وضع مقامي العبد والوزير في رتبة واحدة. وعلى غرار ذلك، ينظر أهل الجهرية لأنفسهم نظرة العبيد، وفي الوقت ذاته، يرون أنفسهم في رتبة الوزراء. في مثل هذه الحالة، يتطلّع الورثة لأن يكونوا خلَف النبي ﷺ وينوون أن يكونوا وزراء للمساهمة في المسيرة المحمدية. وهو نهج ذكي للغاية لتعليم الأحفاد المُلهَمين. فما يُتوارث ويُلقَّن يتمثل في أن سر الاحتفاظ بمظهر رفيع أو منحط يأتي من نفسك فقط، ومع ذلك، فالمرء ينوي ويقرر والتصرف كله لله تعالى. وبهذا تم تبلور نوع من الروحانية القيّمة نتيجة المرور بكل مراحل الكفاح والازدهار التي عرفها هذا الإرث، هذه الروحانية هي ما واصلت به الجهرية مسيرتها وحافظت به على ميراثها من دون تدمير أو إتلاف.
بعد دخول الطريقة الجهرية إلى الصين، تعرضت لكارثة مهلكة. فمنذ عهد الإمبراطور “تشيان لونغ”، تعرضت باستمرار للاضطهاد ومحاولات تدميرية، لكنها لا زالت إلى اليوم تحافظ على التقاليد وتُورِّث الطريقة باطّراد وبدون انقطاع. وهذا إن عنى شيئا فإنما يعني أن الحريق لا يمكنه القضاء على كل شيء، لأن نسيم الربيع سيهبّ ويبث الحياة من جديد. وللجيل السابع والأربعين من سلالة النبي محمد ﷺ ملاحظة محفوظة في بلدة “بو آر”، لا تزيد عن عبارتين اثنتين: “ينشب الحريق، لكن عند هبوب نسيم الرياح تنبعث الحياة من جديد”. هذا ما كوّن في واقع الأمر روحًا عنيدة استطاعت بها الطريقة النقشبندية أن تنتقل في ميراث الطريقة الجهرية بشكل دائم لا ينقطع.
4. مفهوم أنَّ “النبي محمد ﷺ هو جوهر كل ما خُلِق” حسب ميراث الطريقة الجهرية.
هنالك مركز واحد لا غير للعالم بأسره. ويُعتقد في ميراث الطريقة النقشبندية بأن هذا المركز الذي هو جوهر جميع المخلوقات في سائر الأكوان هو إمام المرسلين محمد ﷺ. وبناءًا على هذا المبدأ، يمكن تفسير العديد من الأشياء. فكل ما بين السماء والأرض وكل أنواع الأرواح والرحمات القائمة تشير إلى خالقها والمُنعِم بها. ونحن نؤمن بأن هذه كلها نعمة مقدرة مسبقًا من عند الله أن مكَّن للعالم والكون أن يوجدا وللبشر أن يحيوا وللحيوانات أن تعيش ولسائر الأشياء أن تنمو، وأن خلق كل ما بين السماء والأرض من عوالم تحديدا لخدمة الإنسان.
ويشير الإنسان هنا في الواقع إلى النبي محمد ﷺ. ففي كلمة محمد، اسم نبينا الكريم ﷺ، يشير الميم إلى الرأس، والحاء إلى الكتفين واليدين، وترمز الميم الثانية للبطن والدال للقدمين. لذا فإن شكل كلمة محمد تعبِّر عن صورة الإنسان. ومن أجل ذلك خلق الله الأرض وما عليها والسماء وما بينهما لمرافقة هذا الإنسان، ليبيّن أن النبي محمد ﷺ هو جوهر هذا الكائن. ومنه فإن الإنسان هو جوهر كل ما وُجِد من مخلوقات، وهو أسمى خلْق الله سبحانه. وهكذا تتوالى خلافة الإنسان لله في أرضه سبحانه وتعالى. من المؤكد أن ما في الدنيا والآخرة جميعا يعتمد على قدَر الله ليتحقق. فعلى المرء الأخذ بالأسباب وبيد الله تحقيق المراد. ويُعَدّ الإنسان سببا فقط، يعمل، وينجز وفقًا لقدَر الله لكن في نهاية الأمر لا يكون في أقدار الله إلا ما أراد الله أن يكون. لهذا، وتحت ظل هذا الميراث، فحتى روضة النبي ﷺ تفيض ببركات إلهية ليلا نهارا على سائر أرجاء العالم.
قال جل جلاله: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” [الأنبياء: 107]. بعد انتقال نبينا ﷺ إلى الرفيق الأعلى، استمر عدد لا يحصى من المسلمين بالذهاب لزيارة روضته الشريفة. هم يحبونه ﷺ، وقد جربوا تحديدا في تلك البقعة الشريفة أنواعًا من تشرُّب المعرفة والرحمة منه ﷺ. وتحت هذه المظلة، نستيقن أنه رغم انتقاله ﷺ إلى رحمة الله تعالى، فإن روحه لا تزال متواجدة يصل امتدادها كلَّ أركان الكون، رحمة الله لخلقه. ولا تزال بركات ونِعَم هذه الحياة بشكل عام والآخرة بشكل خاص تنتشر باستمرار في العالم أجمع، جنبًا إلى جنب مع الإرث الإسلامي ومع روح النبي ﷺ.
كل ما استجيب من أدعية كان بفضل شفاعة نبينا ﷺ. وإذا لم يمتثل المرء لقوله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، فهو بذلك لا يسعى للظفر بالشفاعة والنجاة. بل إنه في واقع الأمر يُفقر نفسه ويضرها ولا يحوز من الحظ سوى بأسَه. لذلك، في ميراث كهذا، يحتفل المريدون في الجهرية بالثناء على الله صباحاً مساءً. حيث جاء في القرآن الكريم: “وسبحوه بكرة وأصيلا”. [الأحزاب: 42]. بكرة بمعنى الفجر (صلاة الصبح)، حيث يتمسك أهل الجهرية خلالها بالثناء على المولى من المهد إلى اللحد. أصيلا بمعنى العصر، حيث يتمسك الناس بعد هذه الصلاة، منذ الولادة إلى الوفاة، بمدح الله ونبيه ﷺ، إلى أن يحين وقت اللقاء بهما.
يوجد على مر سنين الحياة “أعمال” كثيرة تخص كل شهر، ما يصل إلى ثمانية وتسعين “عملا” في السنة. وجب القيام بها مرة في الشهر على أقل تقدير، فيها يُمدح الله ورسوله على أمل الاجتماع به ﷺ ولقائه سبحانه وتعالى. بالثناء على الله ورسوله ﷺ وقراءة القرآن يُتقَن أي “عمل”، الشيء الذي شكّل نوعًا من الثروة الروحانية وأغناها. هذه الثروة الروحانية هي توارث ديني منقول عن نبينا ﷺ، لأن نور الإسلام كله انبثق منه ﷺ.
إذا في هذا الميراث، يقبع انسجام عظيم ناتج عن قوة الأفكار. فمن خلال الوصل معه ﷺ، عظُمت محبة الناس له، وقوِيَ التزامهم بسنّته، وحسُن إدراكهم وفهمهم لسلوكياته وشمائله الخُلقية ﷺ. ونتيجة لوجودٍ ثابت طويل المدى شُكِّل عُرْف هذا الميراث. فتأتّى للطريقة الجهرية أن تحوز على مثل هذا التماسك وتحافظ على أصالتها بفضل التنوير الذي تمدّ به مثل هذه الأفكار.
5. تفسير ما يتعلّق “بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الالتزام بالحلال والابتعاد عن الحرام”.
حسب ميراث الطريقة النقشبندية، فإن لأهل الجهرية نزعة لفعل الصواب. سأبذل قصارى جهدي لأكون على صواب في كل ما أفعله، لألتزم بالحلال، ولأحذر الناس من الوقوع في الحرام وأمنعهم من ارتكاب الذنوب والخطايا. في معتقد الجهرية أن غير المؤمنين فقط هم من “لا يُآخذون بخطايا غيرهم، فكل شخص يتحمل مسؤولية ذنوبه على حدة”، أما المسلم فيتحمل بعض المسؤولية المشتركة. فإذا لم تتم تربية الأبناء جيدًا، ونتيجة لذلك اقترف هؤلاء الأبناء فيما بعد ذنوبا وخطايا، وألقوا في نار جهنم جزاءا لسوء صنيعهم، حينها سيتحمل الوالدان بعضا من المسؤولية والعقوبة أيضا.
إذا رأى المسلم أخاه يهُمُّ بفعل المعصية ولم يحثه على العدول عنها، سيحمل على عاتقه جزءا من المسؤولية وسيُسأل يوم الحساب ولربما يعاقب كذلك. لذا، ففي مثل هذا الميراث، يجب على المرء التمسك بما هو حلال، والصدّ عمّا هو حرام، حث الناس على فعل الخير وردعهم عن اقتراف الشر. يلزمه كذلك التمسك بهذا الإرث والحفاظ دائمًا على هذا الحضور الذهني الفاحص والمتأمل لبواطن الأمور، واستغفار الله على كل فكرة عابرة.
في نظم الطريقة الجهرية، يعد الالتزام بروح السّنة النبوية أساسا جوهريا، به يحظى المرء بتجربة أنواع شتّى من الرؤى التهذيبية والنورانية. كما أن العديد من ضروب التنوير والإلهام لا تتأتى لأهل الجهرية العاديين إلا إذا كانت الرؤيا حقيقية أو إذا فُسّرت التفسير الصحيح.
والرؤيا الوحيدة الموثوق فيها ما كان مضمونها حاثًّا على إتيان الفضيلة وتجنب المنكرات، ومعرفة المرء بهذا الأمر ستُجنبه خطر ارتكاب الخطأ بسبب مقاطعات الشيطان الخفية واحتيالاته المتنوعة. فإن رأى المرء حلما، فلن يُعد الحلم موثوقا إلا بعد تفسيره. حينها يكون للحلم تأثير إن حث من خلال فحواه على عمل الخير والعدول عن الشر ودعا في طياته إلى التمسك بالشرع، فيغدو بذلك ذو تأثير إن هو دلّ على خير فقط لا على شر.
لذلك فإنه في مثل هذه الأمور، كان للبصيرة والنبوءات والمعجزات دورًا كبيرا في ترسيخ الإيمان عند الناس في الجهرية، فيلتزم الواحد منهم في حياته كلها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مما يلعب دورا هاما في الدعاية والترسيخ لتزكية عقيدة الفرد والشهادة لحقيقة الإسلام. وبالنسبة لميراث الصوفية بالصين، فتتميز الطريقة النقشبندية بالعديد من الخاصيات المشتركة، التي أعانت الطوائف المحلية على الازدهار والنماء. في حين أن السبب في محافظة الطائفة التقليدية الصينية على حيويتها القوية على الرغم من كل الأحداث التي مرت بها يرجع إلى طاعاتها الخاصة وتوجيهات المرشد لها. والسبب الآخر يرجع إلى خوارق العادات التي ظهرت في الدين إضافة إلى الفكر المتقدم وبعض النبوءات التي رسّخت إيمان الناس.
6. تفسير “بُني الازدهار الإسلامي بتظافر جهود حشود من الحكماء”
إنه لأمر مؤكد في الطريقة الجهرية أن حشودا من الحكماء قد بنووا معا الازدهار الإسلامي، الشيء الذي يدفع بكل شخص قادر منتمٍ للطائفة إلى بدل شيء ما يعود بالنفع على الجهرية ويُسهم إيجابا لصالح ديننا الموروث عن نبينا ﷺ، مع ربط النية في كل هذا بالغاية الأسمى وهي ابتغاء وجه الله سبحانه. ومن المؤكد أيضا أنه يجب على كل شخص أن يكون له تأثيره الخاص. لذلك قامت كل أنواع “الأعمال” على تكوين تقاليد وعادات موحدة. في كل عام، تساعد ممارسة الكثير من “الأعمال” في تربية الأحفاد، حتى لا ينسوا أبدًا معاناة الأسلاف في الجهرية. وهذا ما ساعد كثيرا في إلهام الأجيال اللاحقة. كما جاء في وصية الشيخ طبعة الله (رضي الله عنه) لرجاله قبل موته: “ربّوا الأحفاد مستقبلا بقرب الألف قبر”. وفعلا صدق تنبُّؤه بعد حين من الزمن. وكان ذلك في واقع الأمر عبرة تربوية استقاد منها كل من زار تلك القبور.
وبفضل مثل هذا التراث الصوفي، نشأت روح الطريقة الجهرية العظيمة وطريقة التفكير هاته الفريدة من نوعها، وبذلك تمكنت الجهرية الصوفية من أن تتألق وتدوم. وكان هذا أحد تأثيرات ما أطلقنا عليه عبارة “بَنَت حشود من الحكماء معا ازدهار الإسلام”.
وكما جاء في القول المأثور: “ما أقوى ما يكون حب الأسلاف لأحفادهم”، فإن أكثر ما يحبه الأسلاف هو استقامة أحفادهم. لذلك يطالبون أبناءهم باتباع السنة، واتباع خطى سلف الطريقة الجهرية. كما يقول الأثر: “سِر على آثار السلف”. بفكرة قوية كهذه، برزت للوجود حيوية وطاقة عظيمتان. لذلك، فإن عامليْ الصرامة والتحفظ لدى الجهرية قويان بما يكفي للإبقاء على عملية التوارث والاستمرارية. كل هذه القوة لم تكن صنيع صدفة، بل ثمرة توريث مثل هذه الروح المعنوية.
7. تفسير لما يتعلق بِـ: “العبادة في ميراث الطريقة الجهرية”
للعبادة دلالة واحدة عند الطريقة الجهرية. بدءًا، فمفهوم العبادة يضم كل أنواع الطاعات. من أدّى الطاعات لوجه الله، خلُصت عبادته له سبحانه. وبالتالي فإن توريث العبادة تحت هذا المفهوم يجسد المعنى الحقيقي لعقيدة الجهرية. هنالك سبعة شروط “للطاعات” في العبادة.
أولا: لا تدع الأمر يلتبس عليك في الصلاة
أن يلتبس عليك الأمر في الصلاة يعني أن لا تصليها خالصة لله وحده، ولكن لهدف ما في هذه الحياة أو للبحث عن غاية ما دون الله. لذلك عند الطريقة الجهرية، لا ينبغي للمرء أن يجعل صلاته موضع التباس، إنما ينبغي أن تكون جميع صلواته لوجه الله، وامتثالاً لأمره، وعبادة له جلّ في علاه، وليس طلبا لأي فضل أو ربح أو مغفرة منه تعالى، بل لأنه الله العظيم، خالقنا والوحيد المستحق للعبادة.
وإن لم يكن الأمر كذلك، فستصبح عبادة الناس لله عقيمة تخلو من كل دوافع المحبة والتبجيل. كما أن الأمور لن تختلط أبدا على من يمزج بين محبة الله وتبجيله. فالمشوَّش هو من ليس له نصيب من التقوى، والمشوَّش أيضا هو من لا يحب الله وإن كان تقيا. ستظهر التقوى المطوَّعة تماما لله والمنصرفة كليّة لوجهه الكريم، فقط إن هي اجتمعت مع المحبة. وبحيازة توجّه فكري كهذا، لن يلتبس الأمر على المرء في صلاته مطلقا.
ثانيا: لا تُضِع صيامك
صيام شهر رمضان أو صوم الفم عن الأكل ليس هو عين المطلوب عند الطريقة الجهرية، بل الصيام الحق هو صيام كل أعضاء المرء الحسية، الصيام الحق يتعدى شهر رمضان ليعُمَّ العام بطوله.
وحتى إن لم يَصُم الفم، وجب الصيام:
على العينين فلا تنظران إلى ما لا يجب مشاهدته،
وعلى الأذنين فلا تستمعان إلى ما لا يجوز الاستماع له،
وعلى اللسان فلا ينطق بما لا ينبغي أن يقال،
وعلى اليدين فلا تمتدّان لأشياء يحرُم أخذها،
وعلى القدمين فلا تسير لأماكن يُحظَر وطْؤُها،
وعلى الأنف فلا يشتَمُّ من الروائح ما نُهي عن شمّه.
لذلك، فالصيام غير الضائع يُدعى بالصيام المتواصل. أي أن الصيام يعتبر صحيحا غير مُضاع حينما يكون صياما ثابتا ومستمرا.
ثالثا: لا تَذْكُر فضلك عند إعطاء الصدقة
لا تسجّل عطاءاتك التي تقدمها للآخرين، بل اِنسها. إن كنت لا تزال تتذكر أنك جُدت على شخص ما بمال أو بخدمة ما منذ سنوات مضت، فهذا لا يتوافق مع مفهوم العبادة في ديننا. لذلك، اِنْسَ ما قدّمته مسبقا للآخرين سواء قدّمته سرّا أو علانية، وحرّر الذكرى لتذهب لحال سبيلها. سترتقي في العبادة مع تذكّرك للخير والجميل الذي أمدّك به الآخرون، لكن في ذات الوقت اِنس ما قدّمته أنت لهم.
رابعا: الحجّ بدون رغبات أنانية
فُرض الحجّ مرّة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا. ولمن لم يستطع القيام بهذه الفريضة لعوز به ماديا كان أو صحيا، يُأتى ثوابها إن هو ثابر على صلاة الجمعة بشرط أن تكون نفسه خالية من أي رغبات أنانية. ومن كان حجه لمكسب شخصي أو لأعمال تجارية أو لمقاصد أخرى ينالها، ففائدة حجّه لن تتعدّى تحقيق نواياه المرغوبة. وسيُعدّ حجّه باطلا مادام يطمع في الأمور الدنيوية المؤقتة.
وصحيحُ الحج ما خلا من أي شهوات أنانية، ويحدث هذا حينما يقصد المرء بيت الله الحرام ناويا الفناء عمّا كانت عليه نفسه قِبَلا. فيقرر يوم حجّه أن يُعِدّ نفسه الحالية للاندثار، حيث بعد حجّه ذاك لن يكون لشخصه السالف والآني أي وجود، لن يأسره كما السابق حب أي شيء في هذه الحياة كيفما كان، وستقتصر رغبته كلها في أن يصبح جنديا من جنود الله ويكرّس ما تبقى من عمره في نفع دينه. أما أولئك الذين لم تتسنى لهم فرصة حج البيت الحرام، فسيُثابون أجره أيضا عن طريق زيارتهم للوالدين وللمعلم أو المرشد، وكما هو معلوم، فهذا لا يقوم مقام الفريضة، إلا أن له تأثيرا تعزيزيا لأولئك الذين سلّموا بفناء أنفسهم قبل حتى مجيء أوان الموت الحقيقي.
خامسا: لا لأجل السُّمعة
في الواقع، لن يعتبر القتال جهادا لو تكبّد عناءه المرء بهدف الشهرة. لقيَ رجل حتفه في ساحة المعركة، لكن الملاك ألقى به في نار جهنم. لم يفهم الرجل السبب، فقال فيما مضمونه: “أ ملاك! لا تُخطئ معاملتي، فأنا قد جاهدت في سبيل الله”. أجابه الملاك: “لا، بل جاهدت ليُقال شجاع”. لذلك، فعلى من ينتمي للجهرية أن لا يسعى لطلب السمعة في ما يقوم به لأجل الله، ويُخلص قصده له وحده سبحانه بعيدا عن أي غايات أخرى.
سادسا: تحرير العبد دون إيذاءه
بعد أن أعتق شخص ما عبده، ظن في قرارة نفسه أنه قد أحسن إليه بنعمته. فطلب منه أن يثني عليه وأن يقوم له بأعمال تطوعية إضافة إلى مجموعة من الشروط الأخرى. وهذا ما يُدعى: التسريح بالإيذاء. ومن العبادة عند الطريقة الجهرية تحرير العبد دون أذيته. فدومًا ساعد الخَلق وأبدًا لا تضرّهم. لا تُخبر من أحسنت إليه بمعروفك وبالخير الذي أدّيته من أجله. لا تُشهِر علنًا كرمك للآخرين والأفضل أن تنسى ذلك. هذا ما يرتكز عليه مبدأ التحرير غير المؤذي للعبد. إذا ساعدت شخصا ما وصرّحت أمام الآخرين بأنك أمددته باللباس، وأمّنت له لقمة عيشه، فهذا تسريح مصحوب بأذية وسيؤثّر ذلك سلبا على عبادتك.
سابعا: الذِّكر غير المضجر
أن يكون المرء تابعا للطريقة الجهرية يعني أن يقوم بالفرائض وأن لا يُفرّط في نوعان من الذكر يصاحبانه من ولادته لمماته، إضافة إلى الأذكار التي تتخلّل مُجمل “الأعمال” وباقي أذكار الحال، ومما لا شك فيه فإنه لا ينبغي له أن يملّ أو يضجر من جرّاء المداومة عليها إلى أن يموت، اقتداء بهَدْي النبي ﷺ وبما جاء ذكره في القرآن الكريم: “واذكر اسم ربّك بكرة وأصيلا{25} ومن الليل فاسجد له وسبّحه ليلا طويلا{26}” (سورة الإنسان). وبالنسبة للطريقة الجهرية، سيتذوق المعنى الحقيقي للذكر غير المضجر ذلك الشخص الذي سيستمر على المدح بثبات ورسوخ من نقطة المهد إلى نقطة اللحد. كانت هذه هي الشروط السبعة للعبادة عند الجهرية وهي شروط لطاعات، بتحقيقها ستتحقق صحة العبادة.
كما يوجد أيضا ما يسمى بالتقاني في العبادة. فأنت تعبد من تبذل تفانيك لأجله، فإن كان هذا التفاني موجّها لله، حينها تكون عابدا له بحق جل جلاله. وينقسم التفاني لستِّ شُعب:
1. حبُّ الله بدون شروط
أَحِبَّ الله لأنه الله، لا لغرض آخر مهما كانت الظروف. “ربّي! أنت خلقتني وأنا عبدك، أحبّك مهما تغيرت الأحوال، وقلبي مطمئن مادام كل شيء محكوم بمشيئتك، ولا يُرضيني إلا تمام طاعتك”. وهذا ما يدعى بحب الله اللامشروط.
2. الثبات من غير شكوى
ترتكز الجهرية على مبدأ أن لا يشتكي المرء أبدا لأي شخص كان مهما يكن الأمر. قال رسول الله ﷺ: “لا تسبّوا الدّهر فإن الله هو الدّهر”. لذلك لا تشكُ لأحد، واعمل دائما على رؤية المحن على أنها منح، فما المعاناة إلا اختبار من الله. كما أن هناك سعادة سامية دائما ما تجرّها ذيول أشد المحن. فكن دوما ذو عرفان بالجميل عوضا عن شكر الله في لحظات السعادة فقط واتهامه سبحانه حين وقوع المصائب. إضافة إلى أن الشكوى في حق الله تُجرَّم قطعا عند الجهرية باعتبارها شكل من أشكال اللوم في حقه سبحانه. لذا أثبت ولا تشتك أبدا.
3. لا يكن إيمانك مُبهما
آمن بجزم وبدون أي ريب، لا تَرْتب في شيء، وليَظل إيمانك مؤكدا وصامدا على الدوام رغم ما يطرأ على فؤادك من تغيرات شعورية، وهذا ما تكون عليه العبادة الحقّة. في حين لو وُجد هنالك أدنى التباس في إيمان العبد بربّه، فلن تكون تلك بعبادة.
4. المشاهدة الكلّية
هناك عبارتان مؤكدتان في الطريقة الجهرية. أولاهما المتشابهات في القرآن: “الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون {3} والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون {4} أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون {5}” (سورة البقرة). والثانية هي المشابه، وهي ما يخفيه معنى الآيات: “الذين (الصحابة) يرون بأعينهم الحسية ما ينطوي عليه علم الغيب (لما شاهدوه في صحبة الرسول ﷺ من معجزات)، وبإخلاص وثبات يلتزمون بالطاعات، أولئك هم المفلحون”. وبالنسبة للعبادة في الجهرية، فكل الأشياء عند إمعان النظر فيها تدلّك على أثر وجود خالقها، وفيها تجد أدلة جمّة حول الوجود والحضور الحقيقيين لله عز وجل. لذلك فرغم عدم لقاء العبد بربه بعد، إلا أنه يشاهده كلما رأت عيناه شيئا ما. فيصل بعد فهمه للوجود والحضور الحقيقيين لله إلى حالة من المشاهدة الدائمة للخالق في كل شيء.
5. هي وجهة واحدة لا أكثر
احرص مدى حياتك على سلك مسلك الجهرية، وسلك الدرب الصوفي في رحابة الإسلام، ولا تتحول عن ذلك أبدا. الزم الوجهة الوحيدة، وجهة الانقياد لله. توجّهك في سجودك نحو الكعبة هو عبادة صِرفة لله وليس عبادة للكعبة. وكذا احترامك للمرشد أو لعالم ما لا يعني عبادتك إياه، بل هو تقرب منك عن طريقه لله. كما أنك لست عبدا لأطفالك. اجعلهم رصيدا لك في سيرك إلى الله. يوجد مقطع من حديث شريف مفاده: أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ وأخبره أن به طمع لهذه الحياة الدنيا. مشغول بحياته طوال اليوم، ولا يولِي نصيبا للعبادة على الإطلاق. فأجابه النبي ﷺ بأن حاله ليس بالضبط كما يظن. شعر الصحابي الذي حضر المجلس بغرابة شديدة، فانطلق للتعرف على أسرة ذلك الرجل وللحصول على تفاصيل أكثر. عندئذ وجد أن له خمسة أطفال وزوجة مريضة. كان الرجل يتحمل أعباء أطفاله الخمسة لوحده، مما أعدم أي وقت فراغ كان ليكرسه لراحته، حتى أنه لم يجد وقتا لأداء صلاته. ورغم ذلك، ربّى أبناءه على الفضيلة وعلى سلك الطريق القويم، فتمكن كل من الأطفال الخمسة من حفظ القرآن الكريم. عاد الصحابي وهو يقول: “صدق رسول الله ﷺ”. من أجل ذلك، اِلزم توجّها واحدا طوال حياتك ولا تغيّره أبدا مهما اقتضى الأمر.
6. الاستمرارية دون انفصال عن الصراط المستقيم
بمجرد أن تشرع في اتباع هذا الدين، فلن تنفصل عنه ما حييت، والأمر ليس متعلقا بك فقط، بل بأبنائك وحفدتك كذلك، فيرث ويتوارث هؤلاء مجمل ما تمارسه وتتّبعه.
هذه هي البنود الستة لما يتعلق بكيفية العبادة المرادة من الناس في الجهرية. فنقول بأن هناك عنصران أساسيان فيما يتعلق بالعبادة عند الطريقة الجهرية.
فأولا، العبادة هي الإتيان بالطاعات. إن قمت بها بإخلاص لوجه الله أخلصت العبادة له عز وجل. أما إن كنت تقوم بها لأجل شيء آخر، فأنت بذلك تعبد ذلك الشيء لا غير. فجميع الطاعات والممارسات وجب لزوما أن يُأتى بها لوجه الله.
العنصر الأساسي الثاني للعبادة هو التفاني. أنت تعبد من تخلص له. لذا وجب أن تكون كليّة التفاني لله سبحانه. إذا كان المرء مشغولاً بأولاده، يربّيهم، يعلّمهم قراءة القرآن ويبقيهم على الطريق الصحيح، فتفانيه هنا يكون لأجل الله، وبه تكون عبادته لله خالصة. لكن إن كان قصده من تربية أبنائه أن يرعوه عند كبره، فهذا ليس إخلاصا ومثل هذا التفاني لا يُعد عبادة على أي حال، إنما بذلك يجعل مع الله مستحقا آخر. وفي تراث كهذا، يبدو وكأن الناس يقدّرون العالِم والمعلم الروحي خاصتهم (المرشد) بإفراط. في الواقع، ليس الهدف من ذلك عبادة هؤلاء، وإنما التقرب إلى الله عن طريقهم. لذا فالغاية من التفاني في تربية الأبناء أو التفاني في أي جانب آخر من جوانب الحياة ما هو إلا سعي لتحقيق إيمان راسخ وخالص لا تشوبه شائبة، وللتقرب من ملك الملوك.
بذلك، فإن العبادة في الطريقة الجهرية ترتكز على هذا التوجه، والوجهة هنا في هذا التوجه هي الله. العبادة هي ما يحتاج الناس إلى التمسك به خلال مختلف محطّات حياتهم. الثناء الكثير على النبي ﷺ هو عمل به نتقرب إلى الله، لكنه ليس عبادة له ﷺ. والتعامل بإحسان مع شخص ما، لا يعد عبادة لذلك الشخص، بل هو صورة من صور عبادة الرحمن. وتحت هذا القصد يندرج حديث شريف مفاده أن الأمر كلّه في الدنيا يتوقف على نيتك ودافعك، وفي الآخرة سيعتمد على أعمالك وطاعاتك.
وبهذا نخلُص إلى أنّ ما تحبّه، ما تخافه، ما تسعى له، من تعود إليه، ومن تثق به وتعتمد عليه، هو حتما هدفك المطلق، وهو تماما ما تعبد. وهذا ما ينطوي عليه مجمل موضوع العبادة في الطريقة الجهرية.